سورة الفرقان - تفسير تفسير البقاعي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


ولما كانت عادتهم تجويز الممكن من كل ما يحذرون منه من الخلق، اقتضى الحال سؤالهم: هل أعدوا لما هددوا به من الخالق عدة أم لا؟ في سياق الاستفهام عن المفاضلة بينه وبين ما وعده المتقون، تنبيهاً على أنه أعلى رتبة من الممكن فإنه واقع لا محالة، وتهكماً بهم، فقال تعالى: {قل أذلك} أي الأمر العظيم الهول الذي أوعدتموه من السعير الموصوفة.
ولما كانت عادة العرب في بيان فضل الشيء دون غيره الإتيان بصيغة أفعل تنبيهاً على أن سلب الخير عن مقابله لا يخفى على أحد، أو يكون ذلك على طريق التنزل وإرخاء العنان، تنبيهاً للعاقل على أنه يكفيه في الرجوع عن الغي طروق احتمال لكون ما هو عليه مفضولاً قال: {خير أم جنة الخلد} أي الإقامة الدائمة {التي وعد المتقون} أي وقع الوعد الصادق المحتم بها، ممن وعده هو الوعد، للذين خافوا فصدقوا بالساعة جاعلين بينهم وبين أهوالها وقاية مما أمرتهم به الرسل؛ ثم حقق تعالى أمرها تأكيداً للبشارة بقوله: {كانت} أي تكونت ووجدت بإيجاده سبحانه {لهم جزاء} على تصديقهم وأعمالهم {ومصيراً} أي مستقراً ومنتهى، وذلك مدح لجزائهم لأنه إذا كان في محل واسع طيب كان أهنأ له وألذ كما أن العقاب إذا كان في موضع ضيق شنيع كان أنكى وأوجع، وهو استفهام تقريع وتوبيخ لمن كان يعقل فيجوز الممكنات.
ولما ذكر تعالى نعيمهم بها ذكر، تنعمهم فيها فقال: {لهم فيها} أي الجنة خاصة لا في غيرها {ما يشاؤون} من كل ما تشتهيه أنفسهم {خالدين} لا يبغون عنه حولاً {كان} أي ذلك كله {على ربك} أي المحسن إليك بالإحسان إلى أتباعك {وعداً}.
ولما أشار سبحانه إلى إيجاب ذلك على نفسه العظيمة بالتعبير ب {على} والوعد، وكان الإنسان لا سيما مجبولاً على عزة النفس، لا يكاد يسمح بأن يسأل فيما لا يحقق حصوله، قال: {مسئولاً} أي حقيقاً بأن يسأل إنجازه، لأن سائله خليق بأن يجاب سؤاله، وتحقق ظنونه وآماله، فالمعنى أنه إذا انضاف إلى تحتيمه الشيء على نفسه سؤال الموعود به إياه، أنجز لا محالة، وهو من وادي {أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186] وفيه حث عظيم على الدعاء، وترجية كبيرة للإجابة، كما وعد بذلك سبحانه في {أجيب دعوة الداع} [البقرة: 186] و{ادعوني أستجب لكم} [غافر: 60] وإن لم ير الداعي الإنجاز فإن الأمر على ما رواه الإمام أحمد والبزار وأبو يعلى المنذري: بأسانيد جيدة- والحاكم وقال: صحيح الإسناد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: أما أن يجعل له دعوته، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها، قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر».
وللحاكم عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيب لك فهل كنت تدعوني؟ فيقول: نعم! يا رب فيقول: أما إنك لم تدعني بدعوة إلا استجيب لك؟ أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك ففرجت عنك؟ فيقول: نعم! يا رب! فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغم نزل بك أن أفرج عنك فلم تر فرجاً؟ قال: نعم! يا رب فيقول: إني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، ودعوتني في حاجة أقضيها لك في يوم كذا وكذا فقضيتها؟ فيقول: نعم! يا رب! فيقول: إني عجلتها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا في حاجة أقضيها لك فلم تر قضاءها؟ فيقول: نعم! يارب! فيقول أني ادخرت لك بها في الجنة كذا وكذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا يدع الله دعوة دعا بها عبده المؤمن إلا بين له إما أن يكون عجل له في الدنيا، وإما أن يكون ادخر له في الآخرة، فيقول المؤمن في ذلك المقام: يا ليته لم يكن عجل له شيء من دعائه» ولابن حبان في صحيحه والحاكم وقال: صحيح الإسناد- عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تعجزوا في الدعاء فإنه لن يهلك مع الدعاء أحد» وللترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة» وللبخاري ومسلم وأبي داود والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي» وفي رواية لمسلم والترمذي: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، قيل: يا رسول الله! ما الاستعجال؟ قال: يقول: قد دعوت فلم يستجب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» قال المنذري: يستحسر أي يمل ويعيى فيترك الدعاء- انتهى. وقد فهم من الآية ومن الحديث في استثناء الإثم وقطيعة الرحم أن ما لا مانع من سؤاله موعود بإجابته ونواله، فليدع الإنسان به موقناً بالإجابة.
ولما ذكر لهم حالهم في الساعة معه سبحانه، أتبعه ذكر حالهم مع معبوداتهم من دونه، فقال بالالتفات إلى مظهر العظمة على قراءة الجماعة: {ويوم} أي قل لهم ما أمرتك به، واذكر لهم يوم {يحشرهم} أي المشركين، بما لنا من العظمة التي نبرزها في ذلك اليوم، من القبور؛ وقرأ أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وحفص عن عاصم بالياء التحتية فيكون الضمير للرب {وما يعبدون} أي من الملائكة والإنس والجن وغيرهم ممن يعقل وممن لا يعقل؛ ونبه على سفول رتبتهم عن ذلك وعدم أهليتهم بقوله: {من دون الله} أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له، وذكرها بلفظ ما إشارة إلى أن ناطقها وصامتها جماد بل عدم بالنسبة إليه سبحانه بما أشار إليه التعبير بالاسم الأعظم الدال على جميع الكمال، مع أن ما موضوع على العموم للعقلاء وغيرهم وإن كان أكثر استعماله في غير العقلاء، وعبر سبحانه بقوله: {فيقول} بإعادة ضمير الغيبة بعد التعبير بنون العظمة في {نحشر} في قراءة غير ابن عامر لتقدم الجلالة الشريفة، تحقيقاً للمراد وتصريحاً به، وإعلاماً بأن المراد بالنون العظمة لا جمع، وقرأ ابن عامر بالنون موحداً الأسلوب: {أنتم} أي أيها المعبودات! بإيلاء الهمزة الضمير سؤالاً عن المضل، لأن ضلال العبدة معروف لا يسأل عنه {أضللتم} بالقهر والخداع والمكر {عبادي هؤلاء} حتى عبدوكم كما في الآية الأخرى: {ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون} [سبأ: 40] في أمثالها من الآيات كما في الحديث القدسي: «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم فاحتالهم الشياطين» {أم} ولما كان السؤال- كما مضى- عن الفاعل لا عن الفعل، كان لا بد من قوله: {هم} أي باختيار منهم لإهمالهم استعمال ما أعطيتهم من قويم العقل وسديد النظر {ضلوا} وأوصل الفعل بدون عن كما في هداة الطريق بدون إلى لكثرة الدور، وللإشارة إلى قوة الفعل فقال: {السبيل} أي الذي نهجته ونصبت عليه الأدلة القاطعة، البراهين الساطعة {قالوا} أي المعبودات الحي منهم والجماد، المطيع والعاصي: {سبحانك} أي تنزهت عن أن ينسب إلى غيرك قدرة على فعل من الأفعال.
ولما أنتج التنزيه أنهم لا فعل لغيره سبحانه، عبروا عنه بقولهم: {ما كان ينبغي} أي يصح ويتصور {لنا أن نتخذ} أي نتكلف أن نأخذ باختيارنا من غير إرادة منك {من دونك} وكل ما سواك فهو دونك {من أولياء} أي ينفعوننا، فإنا مفتقرون إلى من ينفعنا لحاجتنا وفقرنا، فكيف نترك من بيده كل شيء وهو أقرب إلينا في كل معنى من معاني الولاية من كل شيء من العلم والقدرة وغيرهما إلى من لا شيء بيده، وهو أبعد بعيد من كل معنى من معاني الولاية، فلو تكلفنا جعله قريباً لم يكن كذلك، وهذه عبارة صالحة سواء كانت من الصالحين ممن عبد من الأنبياء والملائكة أو غيرهم، فإن كانت من الصالحين فمعناها: ما كان ينبغي لنا ذلك فلم نفعله وأنت أعلم، كما قال تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس} [آل عمران: 79] الآية؛ وإن كانت من الجمادات فالمعنى: ما كنا في حيز من يقدر على شيء من ذلك، ولكن فعلوه بطراً؛ وإن كانت من مثل فرعون فالمعنى: ما كان لنا هذا، ولكن هم أنزلونا هذه المنزلة بمجرد دعائنا لهم كما يقول إبليس- فما كان لنا عليهم من سلطان إلا أن دعوناهم فاستجابوا، وذلك لعدم نظرهم في حقائق الأمور، فألقى الكل إلى الله يومئذ السلم، فثبت أنهم ليسوا في تلك الرتبة التي أنزلوهم إياها، وفائدة السؤال مع شمول علمه تعالى تبكيت المعاندين وزيادة حسراتهم وأسفهم، وتغبيط المؤمنين إذا سمعوا هذا الجواب، هذا مع ما في حكايته لنا من الموعظة البالغة، وقراءة ابي جعفر بالبناء للمفعول بضم النون وفتح الخاء واضحة المعنى، أي يتخذنا أحد آلهة نتولى أموره.
ولما كان المعنى: إنا ما أضللناهم، أما إذا قدر من الملائكة ونحوهم فواضح، وأما من غيرهم فإن المضل في الحقيقة هو الله، وفي الظاهر بطرهم النعمة، واتباعهم الشهوات التي قصرت بهم عن إمعان النظر، وأوقفتهم مع الظواهر، حسن الاستدراك بقوله: {ولكن} أي ما أضللناهم نحن، وإنما هم ضلوا بإرادتك لأنك أنت {متعتهم وآباءهم} في الحياة الدنيا بما تستدرجهم به من لطائف المنن، وأطلت أعمارهم في ذلك {حتى نسوا الذكر} الذي لا ينبغي أن يطلق الذكر على غيره، وهو الإيمان بكل ما أرسلت به سبحانك رسلك برهان ما يعرفه كل عاقل من نفسه بما وهبته من غريزة العقل من أنه لايصح بوجه أن يكون الإله إلا واحداً، ما بين العاقل وبين ذكر ذلك إلا يسير تأمل، مع البراءة من شوائب الحظوظ والحاصل أنك سببت لهم أسباباً لم يقدروا على الهداية معها، فأنت الملك الفعال لما تريد، لا فعل لأحد سواك {وكانوا} في علمك بما قضيت عليهم في الأزل {قوماً بوراً} هلكى.


ولما كان هذا أمراً واقعاً لا محالة، التفت إليهم مبكتاً فقال معبراً بالماضي بعد قد المقربة المحققة: {فقد كذبوكم} أي المعبودون كذبوا العابدين بسبب إلقائهم السلم المقتضي لأنهم لا يستحقون العبادة وأنهم يشفعون لكم مقهورين مربوبين {بما} أي بسبب ما {تقولون} أيها العابدون من أنهم يستحقون العبادة، وأنهم يشفعون لكم، وأنهم أضلوكم، وفي قراءة ابن كثير بالتحتانية المعنى: بما يقول المعبودون من التسبيح لله والإذعان، في ادعائكم أنهم أضلوكم.
ولما تسبب عن إلقائهم السلم وتخليهم عمن عبدهم أنه لا نفع في أيديهم ولا ضر، قال: {فما تستطيعون} أي المعبودون {صرفاً} أي لشيء من الأشياء عن أحد من الناس، لا أنتم ولا غيركم، من عذاب ولا غيره، بوجه حيلة ولا شفاعة ولا مفاداة {ولا نصراً} بمغالبة، وهو نحو قوله تعالى: {فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلاً} [الإسراء: 56].
ولما كان التقدير: فمن يعدل منكم لسماع هذا الوعظ بوضع العبادة في موضعها نثبه ثواباً جليلاً، عطف عليه ما المقام له فقال: {ومن يظلم منكم} بوضعها في غير موضعها، وباعتقاده في الرسل ما لا ينبغي من أنه لا ينبغي لهم أن يكونوا مثل الناس في أكل ولا طلب معيشة ونحو ذلك {نذقه} في الدنيا والآخرة، بما لنا من العظمة {عذاباً كبيراً}.
ولما أبطل سبحانه ما وصموا به رسوله صلى الله عليه وسلم وذكر ما جزاهم عليه. وما أعد لهم وله ولأتباعه، ونفى ما زعموه في معبوداتهم وختمه بتعذيب الظالم، ذكر ما ظلموا فيه من قولهم {ما لهذا الرسول} ونحوه، فبين أن ما جعلوه من ذلك وصمة في حقه هو سنته سبحانه في الرسل من قبله أسوة لنوعهم البشري، وأتبعه سره فقال زيادة في التسلية والتعزية والتأسية: {وما أرسلنا} بما لنا من العظمة. ولما كان المراد العموم، أعراه من الجار فقال: {قبلك} أي يا محمد أحداً {من المرسلين إلا} وحالهم {إنهم ليأكلون الطعام} ما نأكل ويأكل غيرك من الآدميين {ويمشون في الأسواق} كما تفعل ويفعلون أي إلا وحالهم الأكل والمشي لطلب المعاش كحال سائر الآدميين، وهو يعلمون ذلك لما سمعوا من أخبارهم، وهذا تأكيد من الله تعالى فإنهم لا يكذبونه عليه الصلاة والسلام، ولا يعتقدون فيه نقصاً، وإبطال لحجتهم بما قالوه من ذلك، وإقامة للحجة على عنادهم، وأنهم إنما يقولونه وأمثاله لمما تقدم من رسوخ التكذيب بالساعة في أنفسهم {وجعلنا} أي بالعطاء والمنع بما لنا من العظمة {بعضكم لبعض فتنة} بأن جعلنا هذا نبياً وخصصناه بالرسالة، وهذا ملكاً وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيراً وحرمناه الدنيا، ليظهر ما نعلمه من كل من الطاعة والمعصية في عالم الغيب للناس في عالم الشهادة، فنختبر الفقير بصبره على ما حرم مما أعطيه الغني أو جزعه، والملك ومن في معناه من الأشراف بصبرهم على ما أعطيه الرسول من الكرامة والبلوغ بالقرب من الله إلى ما لا يبلغونه مع ما هم فيه من العظمة، فلأجل ذلك لم أعط رسولي الدنيا، وجعلته ممن يختار العبوديه والكفاف بطلب المعاش في الأسواق، لأبتليكم في الطاعة له خالصة، فإني لو أعطيته الدنيا، وجعلته ممن يختار الملك، لسارع الأكثر إلى اتباعه طمعاً في الدنيا، وهذا معنى {أتصبرون} فإنه علة ما قبله، أي لنعلم علم شهادة هل تصبرون فيما امتحناكم به أم لا؟ كما كنا نعلمه علم الغيب، لتقوم عليكم بذلك الحجة في مجاري عاداتكم، وفيها مع العلية تهديد بليغ لمن تدبر، ويجوز أن يكون الاستفهام استئنافاً للتهديد.
ولما كان الاختبار ربما أوهم نقصاً في العلم، وكان إحسانه سبحانه إلى جميع الخلق دون إحسانه إلى سيدهم وعينهم، وخلاصتهم وزينهم: محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أعلمهم بتنزيهه وتعظيمه، وكان امتحانهم بجعله نبياً عبداً مع كونه في غاية الإكرام له ربما ظنوه إهانة، نفى ما لعله يوهمه كل من الاستفهام والامتحان في حق الله سبحانه وحق نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال صارفاً وجه الخطاب إليه: {وكان ربك} أي المحسن إليك إحساناً لم يحسنه إلى أحد سواك، لا سيما بجعلك نبياً عبداً {بصيراً} بكل شيء فهو عالم بالإنسان قبل الامتحان، لم يفده ذلك علماً لم يكن، وهو سبحانه يضع الأمور في حاق مواضعها وإن رئي غير ذلك، فينبغي على كل أحد التسليم له في جميع الأمور فإنه يجر إلى خير كبير، والتدبر لأقواله وأفعاله بحسن الانقياد والتلقي فإنه يوصل إلى علم غزير، وما أراد بابتلائك بهم وابتلائهم بك في هذا الأذى الكبير إلا إعلاء شأنك وإسفال أمرهم {ولتعلمن نبأه بعد حين} [ص: 88].
ولما ذكر هذا الابتلاء بعد أن ذكر أول السورة ما هو سبحانه عليه من العظمة من سعة الملك، وكثرة الصنائع، والإحسان إلى جميع الخلق، وكان من حق كل مربوب أن يتعرف إلى ربه، كائناً من كان، لا سيما إذا كان بهذه الصفة، لينال من إحسانه، ويتعزز به على أقرانه، أتبع ذلك أنه كشف الابتلاء عن أنه لا بصر لهم فقال تعالى: {وقال} وأظهر في موضع الإضمار الوصف الذي قدم أنه موجب لعماهم فقال: {الذين لا يرجون} أي ليست لهم عقول لكونهم نسوا {لقاءنا} فهم لا يعملون عملاً يطمعون في إثباتنا لهم عليه بعد الموت على ما يعلمون لنا من العظمة التي من رجاها كانت له فسعد، ومن أعرض عنها كانت عليه فهلك، فصارت لذلك عقولهم تبعاً لشهواتهم، فصاروا يتعرفون إلى جمادات سموها أربابهم، ويقصدونها ويتمسحون بها رجاء للمحال، والانهماك في الضلال، فذكر الرجاء لهذا الغرض مع أنه يلزمه عدم الخوف: {لولا} أي هلا ولم لا.
ولما كان مرادهم لجهلهم أن يروهم كلهم دفعة واحدة، عبر بالإنزال فقال: {أنزل} أي على أيّ وجه كان من أيّ منزل كان {علينا الملائكة} أي كما أنزلت عليه فيما يزعم {أو نرى ربنا} بما له إلينا من الإحسان وما لنا نحن من العظمة بالقوة بالأموال وغيرها، فيأمرنا بما يريد من غير حاجة إلى واسطة.
ولما كان هذا القول مما لا ينبغي لبشر أن يجترئ عليه، لأن فيه اعتراضاً على من لا يحد وصف عظمته، ولا تدرك مقاصد حكمته، قال مصدراً بحرف التوقع لما أرشد إليه السياق جواباً لمن كأنه سأل: ما حالهم في هذا؟ {لقد} أي وعزتنا لقد {استكبروا} أي طلبوا بل أوجدوا الكبر. ولما لم يكن لكبرهم ثمرة في الظاهر، لأنه لا يعود بالضرر على أحد غيرهم، قال: {في أنفسهم} أي بطلب رؤية الملائكة.
ولما كان حاصل أمرهم أنهم طلبوا رتبة النبي الذي واسطته الملك، وزادوا عليه رؤية جميع الملائكة الآخذين عن الله، وزادوا على ذلك بطلب الرؤية، قال: {وعتو} أي وجاوزوا الحد في الاستكبار بما وراءه من طلبهم رؤية جميع الملائكة ورؤية الملك الجبار، وزاد في تأكيد هذا المعنى لاقتضاء المقام له بقوله: {عتواً كبيراً} وبيان أنهم ما قالوا هذا إلا عتواً وظلماً أن ما جاءهم من الآيات التي أعظمها القرآن دلهم قطعاً بعجزهم عن الإتيان بشيء منه على صدقه صلى الله عليه وسلم عن الله في كل ما يقوله، وفي حسن هذا الاستئناف وفحوى هذا السياق دلالة على التعجب من غير لفظ تعجب فالمعنى: ما أشد استكبارهم وأكبر عتوهم! ثم بين لهم حالهم عند بعض ما طلبوا فقال: {يوم} وناصبه ما دل عليه {لا بشرى} {يرون الملائكة} أي يوم القيامة أو قبله في الغزوات أو عند الاحتضار {لا بشرى} أي من البشر أصلاً {يومئذ للمجرمين} أي لأحد ممن قطع ما أمر الله به أن يوصل، ولبيان ذلك أظهر موضع الإضمار {ويقولون} أي في ذلك الوقت: {حجراً محجوراً} أي نطلب منعاً منكم ممنوعاً، أي مبالغاً في مانعيته، ويجوز أن يراد بالمفعول الفاعل، والمعنى واحد في أنهم يريدون أن يكون بينهم وبين الملائكة مانع عظيم يمنعهم منهم؛ قال أبو عبيدة: وهذا عوذة العرب، يقوله من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة وقال سيبويه: يريد البراءة من الأمر ويبعد عن نفسه أمراً، فكأنه قال: أحرم ذلك حراماً محرماً، ومثل ذلك أن يقول الرجل للرجل: أتفعل كذا وكذا؟ فيقول: حجراً أي ستراً وبراءة من هذا، فهذا ينتصب على إضمار الفعل. وعبر بالمضارع إشارة إلى دوام تجديدهم لهذا القول بعد مفاجأتهم به حال رؤيتهم لهم لعظيم روعتهم منهم، بخلاف ما بعده فإنه عبر فيه بالماضي إشارة إلى أنه كائن لا محالة.


ولما كان المريد لإبطال الشيء- لشدة كراهته له لا يقنع في إبطاله بغيره، بل يأتيه بنفسه فيبطله، عبر بقوله: {وقدمنا} أي بما لنا من العظمة الباهرة في ذلك اليوم الذي يرون فيه الملائكة سواء كان في الدنيا أو في الآخرة {إلى ما عملوا من عمل} أي من مكارم الأخلاق من الجود وصلة الرحم والحلم والنجدة في الخير وإغاثة الملهوف وغيره {فجعلناه} لكونه لم يؤسس على الإيمان، وإنما هو للهوى والشيطان- باطلاً لا نفع فيه، وهو معنى {هباء} وهو ما يرى في شعاع الشمس الداخل من الكوة مما يشبه الغبار، فهو أشبه شيء بالعدم لأنه لا نفع له أصلاً.
ولما كان الهباء يرى مع السكون منتظماً، فإذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب، معظم دخوله في حيز العدم مع أنه محسوس، قال مبلغاً في وصف أعمالهم: {منثوراً} وهو صفة، وقيل: مفعول ثالث لجعل، أي جعلنا الأعمال جامعة لحقارة الهباء والتناثر.
ولما علم من هذا أن التقدير: فكاون بحيث إنهم لا قرار لهم إذا كانت النار مقيلهم، تلاه بحال أضدادهم فقال: {أصحاب الجنة يومئذ} أي يوم إذ يرون الملائكة {خير مستقراً} أي مكاناً يصلح للاستقرار لطيبه، ويكونون فيه في أكثر أوقاتهم مستقرين على سرر متقابلين يتحادثون، إشارة إلى أن منزل أولئك لا يمكن الاستقرار فيه {وأحسن مقيلاً} أي مكاناً يمكن فيه الاستراحة في مثل وقت القيلولة للاسترواح بأزوجهم، والتمتع بما يكون في الخلوات، روي أن وقت الحساب على طوله يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين أول النهار إلى وقت القائلة فيقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ الناس من الحساب. وعبر بأفعل التفضيل تهكماً بهم أو أنه عبر بذلك لما كان الكلام عاماً لأحوال الدنيا والآخرة، وهو قاطعون بأنهم في الدنيا أحسن حالاً من المؤمنين، لما هم فيه من السعة في المال والكثرة والقوة، وبلفظ الحسن إشارة إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحه الصور ونحوه.
ولما كان للكفرة في هذه الدار من العز والقوة والضخامة ما يتعجبون معه من مصير حالهم وحال أخصامهم إلى ما ذكر، بين أن الأمر في ذلك اليوم على غير ما نعهده، فقال عاطفاً على {يوم يرون}: {ويوم تشقق} أي تشققاً عظيماً وإن كان فيه خفاء على البعض- بما أشار إليه حذف تائه {السماء بالغمام} أي كما تشقق الأرض بالنبات فيخرج من خلال شقوقها، وأشار إلى جهل من طلبوا نزولهم دفعة واحدة بقوله: {ونزل} أي بالتدريج بأمر حتم لا يمكنهم التخلف عنه، بأمر من لا أمر لغيره {الملائكة} الذين طلبوا أن يروهم في حال واحد {تنزيلاً} في أيديهم صحائف الأعمال؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: تشقق السماء في الدنيا فينزل أهلها وهم أكثر ممن في الدنيا من الجن والإنس، ثم تشقق السماء الثانية فينزل أهلها وهم أكثر من أهل السماء الدنيا وأهل الأرض جناً وإنساً ثم كذلك حتى تشقق السماء السابعة، وأهل كل سماء يزيدون على أهل السماء التي قبلها، ثم ينزل الكروبيون ثم حملة العرش.
ولما كان ذلك اليوم سبباً لانكشاف الأمور ومعرفة أنه لا ملك لسواه سبحانه لأنه لا يقضي فيه غيره قال: {الملك يومئذ} أي يوم إذ تشقق السماء بالغمام؛ ثم وصف الملك بقوله: {الحق} أي الثابت معناه ثابتاً لا يمكن زواله؛ ثم أخبر عنه بقوله: {للرحمن} أي العام الرحمة في الدارين، ومن عموم رحمته وحقية ملكه أن يسر قلوب أهل ورده بتعذيب أهل عداوته الذين عادوهم فيه لتضييعهم الحق باتباع الباطل، ولولا اتصافه بالرحمة لم يدخل أحد الجنة، ومعنى التركيب أن ملك غيره في ذلك اليوم إنما هو بالاسم الذي تقدم له في الدنيا تسميته به فقط، لا حكم له أصلاً ولا ظاهراً كما كان في الدنيا {وكان} أي ذلك ايوم الذي تظهر فيه الملائكة الذين طلب الكفار رؤيتهم {يوماً على الكافرين} أي فقط {عسيراً} شديد العسر والاستعار.
ولما كان حاصل حالهم أنهم جانبوا أشرف الخلق الهادي لهم إلى كل خير، وصاحبوا غيره ممن يقودهم إلى كل شر، بين عسر ذلك اليوم الذي إنما أوجب جرأتهم تكذيبهم به بتناهي ندمهم على فعلهم هذا فقال: {ويوم يعض الظالم} أي لفرط تأسفه لما يرى فيه من الأهوال {على يديه} أي كلتيهما فيكاد يقطعهما لشدة حسرته وهو لا يشعر، حال كونه مع هذا الفعل {يقول} أي يجدد في كل لحظة قوله: {يا ليتني اتخذت} أي أرغمت نفسي وكلفتها أن آخذ في الدنيا {مع الرسول سبيلاً} أي عملاً واحداً من الأعمال التي دعاني إليها، وأطعته طاعة ما، لما انكشف لي في هذا اليوم من أن كل من أطاعه ولو لحظة حصلت له سعادة بقدرها، وعض اليد والأنامل وحرق الأسنان ونحو ذلك كناية عن الغيظ والحسرة لأنها من روادفهما، فتذكر الرادفه دلالة على المردوف فيرتفع الكلام في طبقة الفصاحة إلى حد يجد السامع عنده في نفسه من الروعة والاستحسان ما لا يجده عند المكنى عنه.
ولما تأسف على مجانبة الرسول، تندم على مصادقة غيره بقوله: {يا ويلتي} أي يا هلاكي الذي ليس لي منادم غيره لأنه ليس بحضرتي سواه. ولما كان يريد محالاً، عبر بأداته فقال: {ليتني لم أتخذ فلاناً} يعني الذي أضله- يسميه باسمه، وإنما كنى عنه وهو سبحانه لا يخاف من المناواة، ولا يحتاج إلى المداجاة، إرادة للعموم وإن كانت الآية نزلت في شخص معين {خليلاً} أي صديقاً أوافقه في أعماله لما علمت من سوء عاقبتها، ثم استأنف قوله الذي يتوقع كل سامع أن يقوله: {لقد} أي والله لقد {أضلني عن الذكر} أي عمّي عليّ طريق القرآن الذي لاذكر في الحقيقة غيره وصرفني عنه، والجملة في موضع العلة لما قبلها {بعد إذ جاءني} ولم يكن لي منه مانع يظهر غير إضلاله.
ولما كان التقدير: ثم ها هو قد خذلني أحوج ما كنت إلى نصرته، عطف عليه قوله: {وكان الشيطان} أي كل من كان سبباً للضلال من عتاة الجن والإنس {للإنسان خذولاً} أي شديد الخذلان يورده ثم يسلمه إلى أكره ما يكره، لا ينصره، ولو أراد لما استطاع، بل هو شر من ذلك، لأن عليه إثمه في نفسه ومثل إثم من أضله.
ولما ذكر سبحانه أقوال الكفار إلى أن ختم بالإضلال عن الذكر، وكانوا مع إظهارهم التكذيب به وأنه مفتعل في غاية الطرب له، والاهتزاز به، والتعجب منه، والمعرفة بأنه يكون له نبأ، أشار إلى ذلك بقوله: عاطفاً على {وقالوا ما لهذا الرسول} معظماً لهذه الشكاية منه صلى الله عليه وسلم، مخوفاً لقومه لأن الرسل قبله عليهم الصلاة والسلام كانوا إذا شكوا أنزل بقومهم عذاب الاستئصال: {وقال الرسول} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم: {يا رب} أيها المحسن إليّ بأنواع الإحسان الذي أعظمه الرسالة، وعبر بأداة البعد هضماً لنفسه مبالغة في التضرع {إن قومي} أي قريشاً الذين لهم قوة وقيام ومنعة {اتخذوا} أي يتكليف أنفسهم ضد ما تجده {هذا القرآن} أي المقتضي للاجتماع عليه والمبادرة إليه {مهجوراً} أي متروكاً، فأشار بصيغة الافتعال إلى أنهم عالجوا أنفسهم في تركه علاجاً كثيراً، لما يرون من حسن نظمه، ويذوقون من لذيذ معانيه، ورائق أسالبيه، ولطيف عجائبه، وبديع غرائبه، كما تعرّف به قصة أبي جهل وأبي سفيان بن حرب والأخنس بن شريق حين كانوا يستمعون لقراءته ليلاً، كل واحد منهم في مكان لا يعلم به صاحباه، ثم يجمعهم الطريق إذا أصبحوا فيتلاومون ويتعاهدون على أن لا يعودوا، ثم يعودون حتى فعلوا ذلك ثلاث ليال ثم أكدوا على أنفسهم العهود حتى تركوا ذلك كما هو مشهور في السير.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6